فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (72):

قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

ثم فسر المأمور به، فكأنه قال: أن أسلموا {وأن أقيموا الصلاة} لوجهه {واتقوه} مع ذلك، أي افعلوها لا على وجه الهزء واللعب، بل على وجه التقوى والمراقبة ليدل ما ظهر منها على ما بطن من الإسلام للمحسن.
ولما كان التقدير: فهو الذي ابتدأ خلقكم من طين فإذا أنتم بشر مصورون، وجعلكم أحياء فبقدرته على مدى الأيام تنتشرون، عطف عليه قوله: {وهو الذي إليه} أي لا إلى غيره بعد بعثكم من الموت {تحشرون} فأتى بالبعث الذي هم له منكرون لكثرة ما أقام من الأدلة على تمام القدرة في سياق دال على أنه مما لا مجال للخلاف فيه، وأن النظر إنما هو فيما وراء ذلك، وهو أن عملهم للباطل سوَّغ تنزيلهم منزلة من يعتقد أنه يحشر إلى غيره سبحانه ممن لا قدرة له على جزائهم، فأخبرهم أن الحشر إليه لا إلى غيره، لأنه لا كلام هناك لسواه، فلا علق بين المحشورين ولا تناصر كما في الدنيا، والجملة مع ذلك كالتعليل للأمر بالتقوى، وقد بان أن الآية من الاحتباك، فإنه حذف الصلاة أولًا لدلالة ذكرها ثانيًا، والإسلام ثانيًا لدلالة ذكره أولًا. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة} يعني: وأمرنا بالهدى وبالعمل: يعني: أقيموا الصلاة {واتقوه} يعني: وحّدوه.
ويقال: أطيعوه ويقال: هذا عطف على قوله: و{لَهُ أصحاب يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} وإلى إقامة الصلاة.
ويقال: معناه: أمرنا بالإسلام، وبإقامة الصلاة {واتقوه} يعني: وحّدوه.
وقيل: أطيعوه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وأن أقيموا} يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في {أمرنا} [الأنعام: 71]، وقيل بل هو معطوف على قوله: {لنسلم} [الأنعام: 71] تقديره لأن نسلم {وأن أقيموا}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله لأن نسلم معرب، وقوله: {أن أقيموا} مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في أن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله: {وأن أقيموا} بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة ما ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول فالأول بالنصب، وقال الزجّاج أيضًا: يحتمل أن يكون {وأن أقيموا} معطوفًا على {ائتنا} [الأنعام: 71].
قال القاضي أبو محمد: وفيه بعد، والضمير في قوله: {واتقوه} عائد على رب العالمين {وهو} ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وأن أقيموا الصلاة واتقوه}.
أن هنا مصدرية واختلف في ما عطف عليه، قال الزجاج هو معطوف على قوله: لنسلم تقديره لأن نسلم و{أن أقيموا}.
قال ابن عطية: واللفظ يمانعه لأنّ {نسلم} معرب و{أقيموا} مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل انتهى، وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المعرب وأنّ ذلك لا يجوز ليس كما ذكر، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا، وقال تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيه وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه، بجزم يقصدني فإنْ لم تؤثر في قام لأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب، ثم قال ابن عطية: اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله: {أن أقيموا} بمعنى وليقم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعوّل على المعنى، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول فالأول وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب انتهى، وهذا الذي استدركه ابن عطية بقوله اللهم إلا أن إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أنّ {أن أقيموا} معطوف على أن نسلم وأنّ كلاهما علة للمأمور به المحذوف وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء {أن أقيموا} على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك لأن أن إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن توصل أن المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر، قال سيبويه: وتقول: كتبت إليه بأن قم، أي بالقيام فإذا كان الحكم كذا كان قوله: {لنسلم} {وأن أقيموا} في تقدير للإسلام، ولإقامة الصلاة وأما تشبيه ابن عطية بقوله: ادخلوا الأول فالأول بالرفع فليس يشبهه لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده، بخلاف أن فإنها توصل بالأمر فإذًا لا شبه بينهما.
وقال الزمخشري فإن قلت: على عطف قوله: {وأن أقيموا} قلت: على موضع {لنسلم} كأنه قيل وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا انتهى وظاهر هذا التقدير أنّ {أنْ نسلم} في موضع المفعول الثاني لقوله: {وأمرنا} وعطف عليه {وأن أقيموا} فتكون اللام على هذا زائدة، وكان قد قدّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولًا ويدل على أنه أراد بقوله: {أن نسلم} أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك، ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة انتهى، وهذا قول الزجاج فلو لم يكن هذا القول مغايرًا لقوله الأول: لاتحد قولاه وذلك خلف، وقال الزجاج: ويحتمل أن يكون {وأن أقيموا} معطوفًا على {أتنا}.
وقيل: معطوف على قوله: {إن هدى الله هو الهدى} والتقدير قل أن أقيموا وهذان القولان ضعيفان جدًّا، ولا يقتضيهما نظم الكلام، قال ابن عطية: يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدّر في أمرنا؛ انتهى.
وكان قد قدّر: وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان لأن نسلم وهذا قول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبلة إذ لابد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى تقول: أضربت زيدًا فتجيب نعم وعمرًا التقدير ضربته وعمرًا وقد أجاز الفراء جاءني الذي وزيد قائمان التقدير جاءني الذي هو وزيد قائمان فحذف هو لدلالة المعنى عليه والضمير المنصوب في {واتقوا} عائد على رب العالمين.
{وهو الذي إليه تحشرون} جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة واتقاء الله، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة. اهـ.

.قال أبو السعود:

قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} أي الله تعالى في مخالفة أمره، عطفٌ على نُسلم على الوجوه الثلاثة على أنّ أنْ المصدريةَ إذا وُصلت بالأمر يتجرّدُ هو عن معنى الأمر نحوُ تجرُّد الصلةِ الفعليةِ عن معنى المُضيِّ والاستقبال، فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا: أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نُسلمَ ونُقيمَ الصلاة ونتّقِيَه تعالى، وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلمَ ونقيمَ الصلاة ونتقيَه تعالى والتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمرِ وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به كما أن قوله تعالى: {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جملةٌ مستأنفةٌ موجِبةٌ للامتثال بما أَمر به من الأمور الثلاثة. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} أي الرب في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار والمجرور السابق، وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه وجماعة، وجوز أن يعطف {أَنْ أَقِيمُواْ} على موضع {لِنُسْلِمَ} [الأنعام: 71] كأنه قيل: أمرنا أن نسلم وأن أقيموا.
وقيل: العطف على مفعول الأمر المقدر أي أمرنا بالإيمان وإقامة الصلاة، وقيل: على قوله تعالى: {إِنَّ هُدَى الله} [الأنعام: 71] إلخ أي قل لهم إن هدى الله هو الهدى وأن أقيموا، وقيل: على {ائتنا} [الأنعام: 71]، وقيل: غير ذلك.
وذكر الإمام أنه كان الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم إلا أنه عدل لما ذكر للإيذان بأن الكافر ما دام كافرًا كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغُيَّب وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون وقوله سبحانه: {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وأن أقيموا الصلاة} إنْ جُعلت (أنْ) فيه مصدرية على قول سيبويه، إذ يسوّغ دخول (أنْ) المصدرية على فِعل الأمر فتفيد الأمر والمصدرية معًا لأنّ صيغة الأمر لم يؤت بها عبثًا، فقول المعربين: إنَّه يتجرّد عن الأمرية، مرادهم به أنَّه تجرّد عن معنى فعل الأمر إلى معنى المصدرية فهو من عطف المفردات.
وهو إمّا عطف على {لنسلم} بتقدير حرف جرّ محذوف قبل (أنْ) وهو الباء.
وتقدير الحرف المحذوف يدلّ عليه معنى الكلام، وإمّا عطف على معنى {لنسلم} لأنَّه وقع في موقع بأن نسلم، كما تقدّم عن الزجّاج.
فالتقدير: أمرنا بأن نسلم، ثم عطف عليه {وأن أقيموا} أي وأمرنا بأن أقيموا، والعطف على معنى اللفظ وموقِعه استعمال عربي، كقوله تعالى: {لولا أخَّرْتَنِي إلى أجل قريب فأصّدّقَ وأكُنْ} [المنافقون: 10] إذ المعنى إنْ تُؤخّرني أصّدّقْ وأكُنْ.
وإن جُعلت (أنْ) فيه تفسيرية فهو من عطف الجمل.
فيقدّر قوله: {أمرنا لنسلم} بأمِرْنا أن أسلموا لنُسلم {وأن أقيموا الصلاة}، أي لنقيم فيكون في الكلام احتباك.
وأظهر من هذا أن تكون (أنْ) تفسيرية.
وهي تفسير لما دلَّت عليه واوُ العطف من تقدير العامل المعطوف عليه، وهو {وأمرنا}، فإنّ {أمرنا} فيه معنى القول دون حروفه فناسب موقع (أنْ) التفسيرية.
وتقدّم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة (3).
و{اتَّقوه} عطف على {أقيموا} ويجري فيه ما قُرّر في قوله: {وأن أقيموا}.
والضمير المنصوب عائد إلى {ربّ العالمين} وهو من الكلام الذي أمروا بمقتضاه بأن قال الله للمؤمنين: أسلموا لربّ العالمين وأقيموا الصلاة واتَّقُوه.
ويجوز أن يكون محكيًا بالمعنى بأن قال الله: اتَّقون، فحُكي بما يوافق كلام النبي المأمور بأن يقوله بقوله تعالى: {قل إنّ هدى الله هو الهدى}، كما في حكاية قول عيسى: {ما قلتُ لهم إلاّ مَا أمَرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم} [المائدة: 117].
وجَمع قوله: {واتَّقوه} جميعَ أمور الدين، وتخصيصُ إقامة الصلاة بالذكر للاهتمام.
وجملة: {وهو الذي إليه تُحشرون} إمّا عطف على جملة {اتَّقُوه} عطف الخبر على الإنشاء فتكون من جملة المقول المأمور به بقوله: {قل إنّ هدى الله}، أي وقل لهم وهو الذي إليه تحشرون، أو عطف على {قل} فيكون من غير المقول.
وفي هذا إثبات للحشر على منكريه وتذكير به للمؤمنين به تحريضًا على إقامة الصلاة والتقوى.
واشتملت جملة {وهو الذي إليه تحشرون} على عدّة مؤكّدات وهي: صيغة الحصر بتعريف الجزأين، وتقديم معمول {تحشرون} المفيد للتقوّي لأنّ المقصود تحقيق وقوع الحشر على من أنكره من المشركين وتحقيق الوعد والوعيد للمؤمنين، والحصر هنا حقيقي إذ هم لم ينكروا كون الحشر إلى الله وإنَّما أنكروا وقوع الحشر، فسلك في إثباته طريق الكناية بقصره على الله تعالى المستلزم وقوعه وأنَّه لا يكون إلاّ إلى الله، تعريضًا بأنّ آلهتهم لا تغني عنهم شيئًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}.
هنا تجد الأمر بثلاثة أشياء: نُسْلِمُ لرب العالمين، ونقيم الصلاة، ونتقيه سبحانه، لماذا؟؛ لأن كل الأعمال الشرعية التي تصدر من الجوارح لابد أن تكون من ينابيع عقدية في القلب.
وكيف نسلم لرب العالمين؟. أي نفعل ما يريد وننتهي عما ينهى عنه، ثم نقيم الصلاة وهو أمر إيجابي، ونتقي الله أي نتقي الأشياء المحرمة وهو أمر سلبي، وهكذا نجد أن الهدى يتضمن إيمانًا عقديًا برب نسلم زماننا له؛ لتأتي حركتنا في الوجود طبقًا لما رسم لنا في ضوء افعل ولا تفعل، وحركتنا في الوجود إما فعل وإما ترك. والفعل أن نقوم بسيد الأفعال وهو الصلاة، والترك أن نتقي المحارم، وهذا كله إنما يصدر من الينبوع العقدي الذي يمثله قوله: {لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين}.
والحق سبحانه وتعالى حينما يأمر بفعل أو ينهى عن شيء هو يعلم أنك صالح للفعل وللترك، فإذا قال لك: افعل كذا، فأنت صالح ألا تفعل، وإذا قال: لا تفعل كذا، فأنت صالح أن تفعل، ولو كنت لا تصلح لأن تفعل لا يقول لك: افعل؛ لأنك مخلوق على هيئة تستطيع أن تفعل وتستطيع ألا تفعل، وهذا هو الاختيار المخلوق في الإنسان، أما بقية الكون كله فليس عنده هذا الاختيار.
مثال ذلك: الشمس، إنها ليست حرّة أن تشرق أو لا تشرق، الهواء ليس ليس حرًا أن يهب أو لا يهب، والأرض في عناصرها ليست حرّة في أن تكتمها أو لا تكتمها، لكن الإنسان مميز بقدرته على أن يختار بين البدائل؛ لذلك لابد أن يكون صالحًا للأمرين، والخطأ إنما يأتي من أن تنقل مجال افعل في لا تفعل. أو مجال لا تفعل في افعل. والمؤمن يأخذ منطقية افعل في مجال الفعل، ومنطقية لا تفعل في مجال الترك.
وحين تنظر إلى الإنسان تجد أن التكليف الإلهي يناسب التكوين البشري. وأنت تشترك مع الجماد في أشياء، ومع النبات في أشياء، ومع الحيوان في أشياء، وتتفوق على الكل بقدرة الاختيار التي منحك الله إياها.
ولتوضيح هذا الأمر أقول: لنفترض أن واحدًا أخذك إلى مكان مرتفع ثم تركك في الجو عندئذ تسقط على الأرض، وهكذا تجد أن قانون الجماد ينطبق عليك، فليس لك إرادة أن تقول: لا أريد أن أقع وهكذا نرى الجمادية فيك، وانظر إلى النمو الذي لا تتحكم فيه ولا تقدر أن تقول: سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر بل أنت لا تعرف كيف تنمو، وأنت لا تعرف كيف ينبض قلبك، ولا سرّ الحركات الدودية للأمعاء، ولا حركة المعدة، أو عمل الكبد، أو حركة التنفس التي بها تقوم الحياة، وكل ذلك أمور قهرية، ومن رحمة الله بنا أنها قهرية، فلو كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك.
إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل، ومسخرين فيها، وبعد ذلك خلق لنا الاختيار في التكليف، افعل، ولا تفعل، والتكليف من الله سبحانه وتعالى في الأفعال التي تقع من الإنسان لا في الأفعال التي تقع على الإنسان؛ لأن الأفعال التي تقع من الإنسان هي التي فيها اختيار ويبحثها العقل أولًا، لينفذها الإنسان بعد ذلك. ولذلك لا يكلف ربنا إلا العاقل الناضج؛ لأنه لا توجد قوة تقهره على غير ما يختار. أما المجنون فليس عليه تكليف؛ لأنه لم يُدرْ المسألة في رأسه قبل ان يفعل، وكذلك من لم ينضج؛ لأنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل، وكذلك المقهور على فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه.
وهكذا نعلم أن التكليف لا يلزم الإنسان في تلك الحالات حيث لا يوجد عقل أو يكون العقل غير ناضج، أو أن يوجد قهر.
ويتابع الحق: {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ولو أن المسألة- مسألة الإيمان- مجرد مظهر لا جوهر لما ترتب عليها نتيجة، ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية. وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نجد التلميذ مثلًا إن حضر الدرس أو لم يحضر، استمع إلى المدرس أولًا، ذاكر أو لم يذاكر، ألا يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام؟.
إذن فالحساب قائم على كل فعل؛ لأنك تتمتع أيها الإنسان بخاصية الاختيار، أي أنك صالح لتفعل أو ألاَّ تفعل، ولذلك يرشدك الإيمان إلى العمل الصالح؛ لأن هناك غاية؛ إنَّك ستصير إلى من يحاسبك على أنك نقلت افعل في مجال لا تفعل، أو لا تفعل في مجال افعل. فإن كنت لا تأخذ أمور الإيمان لصلاحية حياتك فخذها خوفًا من الجزاء والحساب. اهـ.